الأستاذ عصام تليمة
1.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
2.
أخي العزيز؛ زادنا الله وإياك يقينا، وعلما يثمر عملا، لا جدلا وسفسطة، اللهم آمين.
سؤالك يحمل بين طياته عدة أسئلة، أولها: لماذا خلق الله إبليس وهو يعلم أنه سيخالف أمره؟، ويحمل سؤالا آخر غير مباشر: لماذا يحاسب الله إبليس على عمل قد قدره الله عليه؟! وأجيبك بما يفتح به الله لي و لك من فهم، حول الموضوع.
* حكمة خلق إبليس:
أولا: لماذا خلق الله إبليس وهو يعلم أنه سيخالف أمره؟، أستغرب من سؤالك فمنطق من يتفكر أن يسأل في خلق من لا ينفع ولا يضر، فخلق ما يأتي منه النفع والضر- بقدر الله- هو موضع السؤال، ولذلك بدر السؤال من قبل من أحد المتشككين لأحد السلف، فسأله قائلا: لماذا خلق الله البعوضة؟ فقال العالم الرباني له: ليذل الله بها أنوف المتكبرين!
فكم من بعوضة أذلت أنف متكبر متجبر على خلق الله، ليعلم أن الله ينال منه، عقابا على ما فعل بأقل خلق خلقه الله سبحانه وتعالى، وقد جاءنا من خبر النمروذ على عهد إبراهيم عليه السلام، الذي قال لنبي الله إبراهيم في حواره معه: (أنا أُحييّ وأُميت) فسلط الله عليه بعوضة تدخل في أنفه، ولا تخرج إلا إذا ضرب بالنعل على أم رأسه.
لقد خلق الله الخلق جميعا، بما فيهم الإنس والجن، لعلة وهدف، بينه سبحانه وتعالى بقوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، وبين الله تعالى علة الحياة والموت، يقول تعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) [الملك: 2،1]. ليبلوكم أي: ليختبركم فيما بين الحياة والموت، أيكم أحسن عملا، وأيكم أصوب وأخلص عملا. ويقول تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) [الكهف: 7]. أي: لنخبرهم أيهم أزهد عملا فيها، وأسرع إلى طاعتنا.
فالمعلم لا يُسأل لماذا تجري امتحانا للطلاب في نهاية العام؟، لأن الذي يميز المتفوق من الفاشل، هو نتيجة الامتحان، فالمدرسة قد وفرت للطالب: الفصل الدراسي، والمعلم، والمنهج والشرح، وكل وسائل الإيضاح، وبقي عليه أن يؤدي دوره، فإذا أخفق في امتحانه فمعنى ذلك أنه أهمل وقصر، ولا يتساوى المجتهد مع المقصر أبدا، وهذا قانون إلهي، وفطري، وبشري، لا يختلف عليه اثنان عندهم مسحة من عقل.
* لماذا يُحَاسَبُ إبليس؟
أما عن سؤال: لماذا يحاسب إبليس على عمل قدر عليه، فهذا ليس كما فهمت من ظاهر الموقف، إن الله تعالى يقول (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) [الأعراف: 179]. ومعنى ذرأنا أي : خلقنا وأوجدنا.
والمتأمل في الآية وما فيها من عبر يرى: أن السبب في دخول هؤلاء النار أنهم رزقوا ملكات ومواهب تنهض بهم لأن يكونوا من أهل الجنة، ولكنهم عطلوا هذه المواهب، ووظفوها في غير وظيفتها، (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها)، ثم شبههم الله تعالى بمخلوقات معطلة المواهب، فقال: (أولئك كالأنعام).
وكأني بسياق الآية يوضح أن الأنعام مخلوقات مظلومة بهذا التشبيه الذي ينتقص من شأنها، فالأنعام لها رسالة وهدف، وهي خدمة الإنسان (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم) [النحل: 5-7]. فبينت الآية أن الأنعام لها رسالة تؤديها، أما الإنسان الذي عطل كل مواهبه وتخلى عن رسالته فالأنعام أرقى منه منزلة، وقد بينت آية أخرى ذلك، في قوله تعالى: (أولئك كالأنعام بل هم أضل).
وإبليس لم يكن في أصل أمره عاصيا لله، بل كان من الطائعين لله، ولكنه خالف أمر الله في السجود لآدم، كبرا منه، وهذا هو سبب طرده من رحمة الله، وقد كان بوسعه أن يسجد كما سجد غيره، فهو لا يسجد لآدم حفاوة بآدم نفسه، بل يسجد له إذعانا لأمر الله سبحانه وتعالى. وقد أعطاه الله ما يميز به بين الخير والشر.
* علم الله وإرادتنا:
كما أحب أن تفرق يا أخي بين أمرين: يوضحان لك القضية بجلاء، الأول: أن علم الله بحدوث الأشياء هو من كمال صفاته سبحانه وتعالى، لا يجبرنا على فعل الشيء، فمثلاً- ولله المثل الأعلى- لو أن صانع ثلاجة قال لك: إنك إن أدرت مؤشر الثلاجة إلى درجة كذا سيكون درجة الثلوجة كذا، وإلى أدرتها إلى رقم كذا سيكون كذا، وإذا أحسنت التعامل معها بالطريقة الفلانية تستمر معك كذا سنة دون عطب، وإذا أسأت استخدامها بالطريقة الفلانية فإنها تفسد، لو أن صانع الثلاجة أو بائعها قال لك كل هذا عنها، أيكون عالما بالغيب؟!.. كلا.
إن مثله كمثل المعلم الذي ينظر إلى تلاميذه فيقول للأول: أنت ستحصل على مجموع 90% وأنت سترسب، ويأتي في نهاية العام فيحصل كل تلميذ على ما توقعه المعلم، أيكون المعلم بذلك قد أوحى إلى تلميذه الفاشل بالرسوب؟! لا، ولكنه يعلم من خلال رؤيته، وخبرته، وفراسته، ومعرفته بقدرات وإمكانات تلامذته مقام كل واحد منهما.
ولله المثل الأعلى، فالله عز وجل عالم بكل أمر، فعلمه من قبل بما سيكون وما يكون وما كان، ليس معناه أنه يجبرنا على ما نفعل، بل هو علم من لا يليق به جهلا بما خلق سبحانه وتعالى، فهو قد يسر لنا معرفة طرق الخير والشر، يقول تعالى: (وهديناه النجدين). والنجدان هما: طريق الخير والشر، أي أتاه من سبل التفريق بينهما ما يمكنه من ذلك، (إنا هديناه السبيل إلى إما شاكرا وإما كافورا) [الإنسان: 3].
الأمر الثاني: أن علم الله بكل شيء حدث وسيحدث، لا يلغي إرادة الإنسان، أو الشيطان، (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) [الكهف: 29]. إن علم الله بما يحدث وما حدث وما سيحدث، أشبه- والله المثل الأعلى- كما يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: (قف أمام مرآة مجلوة صافية وأنت عابس الوجه مقطب الجبين، فماذا ترى؟ سترى صورتك كما هي عابسة مقطبة.
أي ذنب للمرآة في ذلك؟ إن مهمتها أن تصف وأن تكشف، وهي قد صدقت فيما أثبتت لك، ولو كنت ضاحك الوجه لأثبتت لك على صفحتها خيالا ضاحكا لا شك فيه. كذلك – ولله المثل الأعلى- صفحات العلم الإلهي ومرائيه لا تتصل بالأعمال اتصال تصريف وتحريك، ولكنه اتصال انكشاف ووضوح، فهي تتبع العمل ولا يتبعها العمل. غاية ما يمتاز به العلم، أنه لا يكشف الحاضر فقط، ولكنه يكشف- كذلك- الماضي والمستقبل) [عقيدة المسلم ص 120].
* إبليس والغواية:
كما أريد أن أنبهك إلى أمر مهم، وهو: أن إبليس ليس وحده سبب غواية البشر، بل هناك معينات أخرى، ومغويات ومضلات تجعل الإنسان يتنكب طريق الهداية، فهناك النفس الأمارة بالسوء، وهناك هوى النفس، وهناك أصحاب السوء، شياطين الإنس، وهم أشد على المرء من شياطين الجن، فشيطان الجن يكفيك أن تستعيذ بالله منه، وبالفعل عندما يتفكر الإنسان في بعض حيل الإنسان يراها أشد من حيل الشيطان، كما أن الشيطان يوسوس لك، وشياطين الإنس يغرونك بالحسي والمادي، بل ويصرون على متابعتك.
بل إن إبليس يصدر منه أحيانا ما ليس شرا منه، بل قد يسدي نصيحة، كما أسدى إلى أحد أنبياء الله نصيحة أنه ما انتصر عليه إلا مرة واحدة، أكل فيها نبي الله كثيرا، فنام عن قيام الليل، فأقسم ألا يكثر في طعامه بعد ذلك. وفي نصيحة إبليس لأحد الصحابة، وقد حكى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: "صدقك وهو كذوب".
3.
* إلى العمل:
أخي العزيز الإسلام لا يحجر على عقلك أن يسأل في أي شيء شئت، ما دام ذلك في إطار الوصول إلى الحقيقة، وأن يكون إيمانك عن قناعة لا عن تقليد، ولكنه بعد ذلك يرنو إلى أن تنتقل من مرحلة الفكر والنقاش إلى مرحلة العمل، فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله: متى الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم: "وماذا أعددت لها؟" فقد انتقل به النبي صلى الله عليه وسلم من السؤال الجدلي الصرف، إلى منطق العمل، أي يتعلم أن يسأل ما يفيده، وأن يسأل عن الشيء الذي ينبني عليه عمل.
إن إبليس الذي سألت عنه، اتخذ لنفسه هدفا في الحياة، يسعى لتحقيقه، وهدفه هو: غواية بني آدم وإضلالهم: (قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين) الحجر: 39 بل أقسم بالله عز وجل كي يبر بقسمه، ويكون ذلك حافزا له في أداء رسالته: (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين) [ص: 82].
فماذا فعلنا نحن يا أخي في الميثاق الذي قطعه الله علينا، وأشهدنا عليه، وشهدنا وأقررنا به، يقول تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف: 172؟ هذا هو ما ينبغي أن نقوله لأنفسنا، هداني الله وإياك إلى تجنب غواية الشيطان والنفس والهوى، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم آمين
4.
منقول عم موقع اسلام اون لاين