الكتاب الأول..
دعوة إلى الحياة..
السفر...
(1)
سلام.. داليا.. مية.. سنار.. رشا.. أحلام...
وتنبعث في ذاكرتها شرارة سوداء.. سوداء حارقة أستنزف الحزن واللوعة والذكرى التي لا تموت ما فيها من وهج ناري فغدت بلون قار معتق.. ومع ذلك انفلاتة من مكامنها.. مع كل شهقة حب أو أسى.. تبعث الحياة من جديد في الأحزان الغافية في القلب...
ومر كشريط حي كل ما جرى في تلك الأيام أمام عينيها...
رن جرس الباب بإلحاح.. عقارب الساعة لم تبلغ بعد السادسة من صباح نهار جديد.. كانت سميرة تساعد سعداً في تناول فطوره.. فيما كانت هناء تتناول فطورها بكسل وهي تصارع بقايا نوم ما زال عالقاً بين أجفانها.
أيقظها رنين الجرس.. تركت ما كان بيدها وهرعت نحو الباب لتفتحه..
تساءلت سميرة:
تُرى.. من القادم في هذا الوقت المبكر؟!
اندفعت أُم سميرة مجتازة الباب وهي تسأل وقد ارتم على وجهها خوف أنساها الرعب كيف تخفيه:
ـ هناء.. أين أمك؟
ودون أن تترك فرصة لهناء لترد عليها، راحت تنادي وهي تندفع كريح عاصفة هوجاء نحو الصالة:
ـ سميرة.. سميرة.. أين أنت؟
خرجت سميرة من المطبخ مسرعة وهي تنشف كفيها بمنديل أخضر تنتثر على حواشيه زهور صغيرة تزدهي بياضاً.. ووريقات حمر تبعثرت على جوانبها نقاط سود..
ـ أمي.. ما بك؟.. ماذا حدث؟
ـ سميرة.. جاء مبعوث من خالك برسالة عاجلة يدعونا فيها للذهاب إلى بعقوبة والبقاء معهم بضعة أيام ريثما تنجلي هذه الغمة.. حاولت الاتصال بك وبأحلام.. لكن التلفون كان عاطلاً.. أستعدي للسفر.. وسأقوم أنا بالاتصال بأحلام.. اتجهت نحو جهاز التلفون وهي تردد:
ـ إن لم يكن تلفونك عاطلاً..
ـ لا أدري.. لكني أظن أنه لا بد أن يكون عاطلاً.. فقد قصف قسم من بدالات بغداد منذ الأيام الأولى للعدوان.. واعتقد أنهم قد أجهزوا الآن على ما تبقى منها..
عادت أم سميرة باتجاه المطبخ.. وقفت عند فتحة الباب ومضت تقول:
ـ سميرة اسمعي.. اتصلي أنت بأحلام فأنا لا وقت لدي.. قولي لها أن تتهيأ للسفر، وقولي لها إن خالك يصرّ أن تأتي هي والصغار معنا..
بهتت سميرة.. فهي لم تعتد أن ترى أمها في حالة كهذه من الانفعال، وهي التي ما اعتادت أن تظهر لحظات ضعفها أمام الآخرين.. حتى أبنائها.. لكنها الآن لم تبق لابنتها ـ لشدة انفعالها ـ أية فرصة للكلام..
ـ اسمعي سميرة.. سأذهب الآن إلى بيت أم أروى.. إن لها رسالة معي وصلتها على عنوان الكلية حين كانت مجازة.. ولم أستطع أن أوصلها لها في حينه.. سأسلمها الرسالة وأعود إلى البيت..
وأضافت:
ـ أخشى أن يكون فيها شيء مهم.. لا يقبل التأجيل..
قاطعتها سميرة دون أن تفكر لحظتها بموضوع السفر..
ـ لكن أمي.. هل لديك وقود كاف في سيارتك؟
ـ أجل.. أجل ثم إن بيت أم أروى ليس بعيداً عن بيتي.. أعود بعدها فوراً إلى البيت آخذ حماماً وأهيئ ما نحتاجه للسفر..
استدارت لتغادر.. لكنها توقفت في منتصف المسافة لتقول:
ـ سميرة.. سنغادر صباح الغد.. بعد طلوع الفجر..
ـ ولكن...
وقاطعتها الأم:
ـ سميرة "الله يخليج" بلا ولكن.. وقولي لأحلام ألا تهتم بموضوع الأكل.. سأهيئ أنا كل شيء كي لا نضايق بيت خالك ولا نشعر نحن بإحراج.. يا لله.. يا لله سميرة.. لا تتأخري..
ومرة أخرى قاطعتها سميرة..
ـ أمي.. ولكن..
لم تترك أمها مجالاً لتتم ما تريد قوله.. واندفعت نحو الباب...
فغرت سميرة فاها وكأنها تريد بذلك أن تعبر دون أن تفكر، عن استغرابها مكررة بصوت هامس لا يكاد يسمع:
ـ بعد طلوع الفجر.. قبل طلوع الفجر.. ياه!
حيرة مضنية شلت قدرتها على التفكير أو على اتخاذ قرار صحيح.. وأمامها طريق طويل.. طويل.. طريق مليء بالحفر.. بالأشواك.. بتكسرات وعقبات لا أحد يدري من أين يأتي.. متى.. وإلى أين المآل.. تجللها أجواء قد تشرق شمس نهاراتها وقد تخبو وراء غيوم دكناء.. ومطر.. وأعاصير هوجاء.. وعليها هي أن تسير وحيدة في دروب الحياة تشق السبيل أمام الصغيرين حتى يستطيعا الوقوف على أقدامهما.. ويواصلا المسير..
ماذا ينبغي أن تفعل.. وماذا يجب ألا تفعل.. لكن أملاً رهيفاً ظل يراوغها.. قد يتوقف العدوان ويعود السلام.. وتعود أنسام الصباح طرية.. ناعمة تشيع الحياة في أجساد أضنتها متاعب المسير.. وتزرع الأمنيات من جديد في نفوس جفت ينابيع الأمل في أعماقها في ما مر من سنين.. تجولت بعينيها بعيداً عن مجال الرؤية.. رياح الهجر تنوح نادبة الغِيِّاب الذين غادروا